حصارٌ يُفرَج عنه.. كيف يبدّل تفكيك العقوبات خارطة الحقوق والتنمية في سوريا بعد عقدٍ من الحصار؟

حصارٌ يُفرَج عنه.. كيف يبدّل تفكيك العقوبات خارطة الحقوق والتنمية في سوريا بعد عقدٍ من الحصار؟
سوريا

في تحول استراتيجي غير مسبوق، يشهد الملف السوري انفتاحًا دوليًا متسارعًا نحو تخفيف العقوبات الاقتصادية، ما يفتح آفاقًا جديدة لإعادة الإعمار والاستقرار بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، ففي منتصف مايو 2025، كشفت وثيقة تحدثت عنها وكالة "رويترز" عن اقتراح من مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، لتخفيف إضافي للعقوبات المفروضة على سوريا، يسمح بتمويل وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين للعمل في مجالات تشمل إعادة الإعمار والهجرة ومكافحة الإرهاب. 

يأتي هذا التحول بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ما يعكس تغيرًا في المواقف الغربية تجاه دمشق. وقد قدر البنك الدولي تكلفة إعادة إعمار سوريا بأكثر من 250 مليار دولار، ما يبرز الحاجة الملحة لتدفق الاستثمارات والمساعدات الدولية. 

في سياق التحوّلات المتسارعة على الساحة الإقليمية والدولية، دعا وزير المالية السوري، يسر برنيه، المستثمرين الأجانب إلى اغتنام ما وصفه بـ"الفرص النوعية المتاحة في سوريا"، مشددًا على أن البلاد تمر بمرحلة إعادة هيكلة اقتصادية عميقة تهدف إلى جذب رؤوس الأموال واستعادة الدور الاقتصادي الإقليمي لسوريا، وأكد برنيه أن الحكومة السورية تعمل على توفير بيئة جاذبة للاستثمار في قطاعات حيوية أبرزها الزراعة، التي تمثل مصدر رزق لأكثر من 40% من السكان، وقطاع النفط الذي كان قبل عام 2011 يدر على البلاد نحو 4.7 مليار دولار سنويًا، فضلًا عن قطاعات السياحة والبنية التحتية والنقل، والتي تمثل أساسًا لتعافي الاقتصاد المحلي وتعزيز فرص العمل.

وأشار برنيه إلى أن تخفيف العقوبات الأوروبية والدولية من شأنه أن يعيد دمج سوريا تدريجيًا في النظام المالي العالمي، ويتيح للمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص الوصول إلى التمويل والتكنولوجيا المتقدمة، معيدًا التذكير بأن العقوبات السابقة أدت إلى تجميد الأصول السورية في الخارج وتقييد التعاملات المصرفية، ما تسبب بخسائر مباشرة تجاوزت 100 مليار دولار خلال العقد الماضي، بحسب تقديرات صادرة عن المركز السوري لبحوث السياسات في دمشق.

من جهته، وصف وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، قرار تخفيف العقوبات بأنه "بداية جديدة" لجهود إعادة الإعمار الوطني، موجهًا شكره إلى المملكة العربية السعودية لدورها الدبلوماسي النشط في تيسير هذه التحركات على الساحة الدولية، وأكد الشيباني أن هذه الخطوة تأتي تتويجًا لجهود مكثفة بذلتها الحكومة السورية في الأشهر الماضية لإعادة بناء جسور الثقة مع المجتمع الدولي، وفتح قنوات تواصل مع العواصم الأوروبية والعربية، انطلاقًا من سياسة خارجية جديدة تضع الاستقرار الإقليمي والشراكات الاقتصادية في صدارة الأولويات.

على الجانب الأوروبي، قرر الاتحاد الأوروبي تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا، بما يشمل القيود المفروضة على القطاعات الحيوية مثل المصارف والطاقة والنقل، وهو ما اعتُبر خطوة تمهيدية لدعم الانتقال السياسي الشامل وتعزيز التعافي الاقتصادي السريع، وبحسب وثيقة رسمية يتبيّن أن الاتحاد أقرّ "خريطة طريق" لتخفيف العقوبات تشمل السماح بتمويل مباشر لوزارتي الدفاع والداخلية في الحكومة السورية الجديدة، بما يتيح لهما تنفيذ برامج في مجالات إعادة الإعمار، وبناء القدرات الإدارية والأمنية، ومكافحة الإرهاب، ومعالجة ملفات الهجرة واللاجئين.

ويقدّر البنك الدولي أن تكاليف إعادة إعمار سوريا قد تجاوزت حاجز الـ 250 مليار دولار، وتشير بيانات أخرى صادرة عن منظمة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد تقلّص بنسبة 60% منذ عام 2011، فيما تجاوزت معدلات البطالة 50%، ووصلت نسبة السكان تحت خط الفقر إلى أكثر من 90% في بعض المحافظات، ووفقًا لتقارير البنك الدولي، فإن عودة النمو الاقتصادي تتطلب استثمارات ضخمة تراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار سنويًا على مدار عقد كامل على الأقل، إلى جانب إصلاحات مؤسسية ومصرفية شاملة.

وفي الوقت ذاته، حذّر خبراء اقتصاديون من أن تخفيف العقوبات، وإن كان خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن تأثيره سيظل محدودًا ما لم يُستكمل برفع العقوبات الأمريكية، لا سيما تلك المنصوص عليها في "قانون قيصر"، الذي لا يزال يشكل العائق الأكبر أمام التعاملات المصرفية الدولية والتجارة عبر الحدود، إضافة إلى تأثيره السلبي على المنظمات الإنسانية العاملة في الداخل السوري، ويرى هؤلاء الخبراء أن رفع هذه العقوبات سيفتح الباب أمام إعادة تشغيل أكثر من 2000 منشأة صناعية وتجارية كانت قد توقفت بسبب القيود المفروضة على استيراد المواد الأولية والتجهيزات.

في ضوء هذه المستجدات، أبدت دول مثل ألمانيا وهولندا والنمسا وإيطاليا استعدادها لدعم إعادة الإعمار، إذ دعت في وثيقة مشتركة إلى رفع العقوبات عن مصرف سوريا المركزي والمؤسسات المالية الرسمية، بهدف إتاحة مجال أوسع للتعافي الاجتماعي والاقتصادي، وتسهيل إيصال المساعدات الأممية وتطوير الخدمات الأساسية، وأفادت تقارير لمنظمة "أوكسفام" بأن نحو 70% من شبكات المياه في سوريا بحاجة إلى إعادة تأهيل، في حين أن أكثر من 60% من المدارس والمرافق التعليمية خارج الخدمة، وهو ما يشكل تحديًا هائلًا أمام أي خطة للتنمية المستدامة أو تحقيق الاستقرار الاجتماعي.

من جهة أخرى، يرى مراقبون في الشأن الإقليمي أن الخطوة الأوروبية الأخيرة تمهد الطريق لتغيّر أوسع في مقاربة الملف السوري، قد تشمل قريبًا مساعي لعودة سوريا إلى مؤسسات تمويلية دولية كصندوق النقد والبنك الدولي، وكذلك جامعة الدول العربية، التي كانت قد قررت في عام 2023 إعادة تفعيل عضوية دمشق بعد قطيعة استمرت أكثر من عقد.

ومع ذلك، فإن التحرك الأوروبي يضع على عاتق الحكومة السورية الجديدة مسؤوليات جسيمة. فالمجتمع الدولي بات يشترط التزامًا صريحًا بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومكافحة الفساد، وفرض سيادة القانون، كشرط أساسي لأي دعم مالي أو فني، وتراقب منظمات حقوقية وأممية هذا المسار عن كثب، محذّرة من أن أي انتكاسة في مجال الحريات أو المحاسبة قد تعيد فرض العقوبات من جديد، وتحبط جهود التعافي الوطني.

كما تشير تقارير  منظمات حقوقية دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" إلى أن استمرار احتجاز آلاف المعتقلين السياسيين وعدم الكشف عن مصير المفقودين، يعد من أبرز التحديات التي قد تعيق جهود تطبيع العلاقات الدولية مع سوريا، وتضعف فرص الاستفادة الكاملة من تخفيف العقوبات.

في المحصلة، تبدو سوريا اليوم واقفة على مفترق طرق مصيري بين فرصة تاريخية للانتقال من ركام الحرب إلى نهضة تنموية شاملة، وبين خطر التراجع إذا لم تتوافر الإرادة السياسية والإصلاحات المؤسسية الجادة، فالعقوبات ليست فقط أداة ضغط، بل مرآة تعكس موقف المجتمع الدولي من مدى التزام دمشق بقيم العدالة والشفافية وحقوق الإنسان. ورفعها، كليًا أو جزئيًا، يجب ألا يكون نهاية الطريق، بل بدايته نحو بناء وطن يليق بتضحيات السوريين ومستقبلهم.

الحسابات الجيوسياسية

لم يكن القرار الأمريكي الأخير بتعليق جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا مجرد إجراء قانوني عابر، بل جاء في سياق معقد يتقاطع فيه البُعد الجيوسياسي الإقليمي مع متطلبات الداخل السوري في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وبينما ينظر البعض إلى القرار كخطوة أمريكية براغماتية تهدف لترضية حلفاء إقليميين، يراه آخرون نافذة حقيقية للتعافي الاقتصادي في بلد أنهكته الحرب والعزلة.

يرى ماركو مسعد، عضو مجلس الشرق الأوسط للسياسات في واشنطن، أن قرار رفع العقوبات لم يكن انعكاسًا لتغيير موقف واشنطن من النظام السوري، بل نتاجاً لحسابات استراتيجية دقيقة لعبت فيها المملكة العربية السعودية الدور الأبرز، وقال في حديثه لـ"جسور بوست" إن واشنطن قدمت هذا التنازل ضمن صفقة أوسع تهدف إلى تحسين العلاقات مع الرياض، في ظل التوتر الذي خلفته الحرب في غزة، وضغوط متزايدة قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.

ووفق مسعد، فإن السعودية والإمارات ربطتا انخراطهما الكامل في "اتفاقات أبراهام" بشرطين: أولاً، تحقيق تهدئة جدية في غزة أو الاعتراف بدولة فلسطينية؛ وثانياً، إنهاء العزلة السياسية المفروضة على دمشق. وبذلك، فإن رفع بعض القيود عن النظام السوري يمثل -من وجهة نظر إدارة ترامب- ثمناً مقبولاً لتعزيز التحالفات الإقليمية واحتواء التصعيد على عدة جبهات.

وأضاف مسعد أن البراغماتية هي السمة الأبرز لنهج الرئيس ترامب في السياسة الخارجية، مؤكداً أنه لا يُعير اهتماماً كبيراً لقضايا الديمقراطية أو حقوق الإنسان بقدر ما يركّز على النتائج، وتابع: "إذا توفرت الضمانات الأمنية من السعودية وتركيا بعدم تهديد مصالح واشنطن أو إسرائيل، فإن بقاء العقوبات يصبح بلا جدوى سياسية".

رسائل لإسرائيل وتفاهمات غير معلنة

من جهة أخرى، أشار مسعد إلى أن إسرائيل لن تبقى على الهامش، بل ستسعى للحصول على ضمانات استراتيجية مقابل أي خطوة تطبيع أو إعادة تأهيل للنظام السوري، من خلال تفاهمات محتملة عبر وسطاء سوريين، "إسرائيل ستضع شروطها بدقة، سواء في المجال الأمني أو العسكري، وقد تبدأ بقبول نوع من الترتيبات الواقعية إذا ضمنت مكاسب ملموسة"، يقول مسعد.

ورغم وصف النظام السوري بأنه "يميني متطرف"، فإن انخراط قوى إقليمية نافذة كالسعودية وقطر وتركيا يُمهّد، بحسب مسعد، إلى مرحلة "تأهيل سياسي تدريجي" بعيدًا عن الصدام المباشر مع المؤسسات الدولية.

فرصة نادرة لا تُعوّض

في السياق ذاته، رأى الخبير الاقتصادي خالد الشافعي أن القرار الأمريكي يُمثل "نافذة أوكسجين" حقيقية لاقتصاد سوري متهالك، مشيراً إلى أن الرسالة الرمزية من القرار لا تقل أهمية عن آثاره العملية، لأنها تعزز ثقة المستثمرين وتكسر الجمود في التعاملات المصرفية الدولية.

وأوضح الشافعي في تصريحات لـ"جسور بوست" أن القطاعات الأكثر تأهباً للاستفادة من هذه الخطوة هي الزراعة، الصناعات الدوائية، والغذاء الخفيف، وهي قطاعات تمتلك رأسمالاً بشرياً وخبرة ميدانية قابلة لإعادة التفعيل بسرعة.

وأضاف أن تحسّن القدرة التشغيلية للمصانع، وكبح جماح التضخم، واستعادة الصادرات هي أبرز المكاسب المنتظرة، لافتاً إلى أن هذه الانفراجة تتيح للحكومة فرصة لتفعيل إمكاناتها الكامنة.

لا انتعاش بلا استقرار

لكن الشافعي حذّر من أن أي تصعيد أمني، سواء من جانب إسرائيل أو بسبب التوترات الداخلية، قد يُفرغ القرار من مضمونه ويقضي على آمال التعافي المبكر، ودعا الحكومة السورية إلى استغلال اللحظة عبر حزمة إجراءات تشمل تحديث الأنظمة الجمركية، ضبط الحدود، وتحفيز استثمارات المغتربين.

واختتم تصريحه بالقول: "الإعفاء الجزئي ليس عصاً سحرية، لكنه فرصة نادرة. إذا استُثمرت جيداً، يمكن أن تُعيد هيكلة الاقتصاد السوري ليعتمد على التصدير والإنتاج، لا على التحويلات والمساعدات".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية